الأحد، 8 يونيو 2008

جاء الحرب وجلس بقربي


يرّن الخلوي مرة بعد مرة. هلال يريد أن يطمئن. بعده أبي، ثم أشقائي. شجرة أبي ونصف فروعها في الضاحية. هناك فرعان في أميركا. أنا الفرع البيروتي. وجوار بيتي يشتعل. لا داع للقلق، أقول. جاد ينام عند جديه لأمه، ونحن في الحمرا. نحتفل بعيد ميلاد صديقة، ونلتقي صديقنا الآتي في زيارة من دبي. قبل أن يسافر، كنا نراه أقل مما نراه الآن. فهو، المريض بشارع الحمرا، تكاد زياراته إلى بيروت تتحول إسبوعية. ماذا لو لم تهدأ هذه الليلة؟ نبقى حيث نكون. ماذا لو أقلعت الحرب هذه الليلة؟ نبقى حيث نكون. ليس أنني غير مستعد لإلغاء السهرة فحسب، بل أنني غير مستعد للحظة أن أقلق. أكثر من ذلك، فلتأتِ الحرب. أو، بالأحرى، فليأتِ الحرب..
.
نشاط فائض
.
هذا النشاط الفائض الذي لطالما اشتهر به الذكور عبر التاريخ، لا أفهم لماذا أنّثته اللغة العربية. سأفترضه مذكراً، من الآن وحتى نهاية هذا النص. فليأتِ هذا الحقير إذاً، وأنا بانتظاره. نصف ساعة وجاء الحرب. جلس بقربي. نظرت فيه، فاستغربت. عجوز مشوه، وجهه ملآن بالندوب وآثار المعارك. له عينا مجرم تتقدان بالنار. له قرنان مسننان وذيله الشيطاني ممدد خلفه. لونه أحمر قانٍ وصوته عميق وأجش. يخرج من فمه الدخان حين يحكي. يحمل عصا بقرنين معقوفين. ابتسامته شريرة مقيتة... وناباه يقطران دماً. هكذا ظننته سيكون. لكن لا. كان شاباً، في السادسة عشرة. لا يختلف في ملابسه ولا في قصة شعره عن كل أترابه. عيناه بنيتان حزينتان ومشاكستان على عادة المراهقين. يميل إلى القصر، ونحيل جداً. خجول. أخرق بعض الشيء، وفي وجهه بضعة بثور. لا تملك، وهو جالس بقربك، إلا أن تشفق عليه. أنت الحرب؟ سألته متعجباً. قال: إيه نعم. ماذا تريد؟ ـ لماذا لا تذهب إلى البيت، يا حرب، فتشرب كوباً من الحليب وتنام؟ ـ لست طفلاً كي تقول لي هذا. ـ مثل هذه العبارة لا توجهها إلي يا حرب. هذه تقولها لأبيك على سبيل إثبات رجولتك أمامه. أنا مجرد غريب. وانظر أمامك إلى صديقي الأشقر ضخم الجثة هذا. يمكنني، بمساعدته، أن نعيدك إلى أمك متورماً. هل تفهم. هيا عمو حرب. إلى البيت حبيبي. ـ لا. ـ يا حرب. اسمع الكلمة وقم واذهب إلى البيت. ـ لا. ـ بلى. ـ لا. ـ بلى. ـ لا. ماذا ستفعل؟ ـ لا شيء. سأطلب لك شيئاً تشربه. ماذا تريد؟ ـ أورانج فودكا! ـ ماذا؟ كنت أظن أن مشروبك المفضل هو الدم. ـ أتظن أنك أول من يلقي هذه النكتة السمجة. أنت سخيف. ـ ماذا؟ قم يا حرب. بربك قم. لا جَلَدَ لي عليك. ـ أنا باق. أنت قم وغادر. ـ حرب. اسمعني. كنت أظنّك شخصاً آخر. تبين أنك مجرد مراهق نزق لا تعرف مصلحتك. إذهب إلى البيت أقول لك. لا تجرّب سعة صبري. ثم وقفتُ والتقطتُ الحرب من قميصه ورفعته. كريشةٍ حملتُه. التفتُّ إلى أصدقائي متفاخراً فرأيتهم يضحكون. عدت لأرمي عليه نظرة التشفي الأخيرة قبل أن أحمله عالياً وأرميه بعيداً فينفجر الجميع بالضحك عليه. وقعت عيناي على عينيه. كان ينظر إليَّ بعينين ناعستين نصف مغمضتين. ببطء قال: لك ولد عمره سنتان. أعرف عنوان بيتك. أعرف كل شيء عنك. سمعتك تحكي عني كثيراً، مع زوجتك. مع أبيك وأمك وأشقائك وأصدقائك. تجولت في بيتك الجديد الذي تنتظر انتهاءه كي تنتقل إليه.
.
أركان وصور و زمان
.
أرى الصور التي ترسمها في مخيلتك لغرفتك الخاصة. جلستُ في الركن الذي تعده للاسترخاء فيه، للقراءة وسماع الجاز وفيروز. رأيت شرفتك العارية وزدت عليها من أفكارك، ستائر الزجاج والكراسي وأصدقاءك تلعب معهم ورق الشدّة. أرى الألوان التي تطلي بها الجدران والصور التي ستعلقها عليها. أقطن في بيتك. كنت أقف بقربك على درج المبنى وأنت تبكي، ترفض أن تذهب إلى بيت خالتك الآمن في بيروت، بينما والدك سيبقى في البيت غير الآمن في الضاحية. متى كان ذلك، في الثمانينيات؟ كنتَ ولداً يومها. أما زلت تذكر المرة الأخيرة التي نزلت فيها إلى الملجأ؟ أنا أذكرها. كانت وداعاً غير لطيف مني. كنتَ في ذاك اليوم من تشرين ترتجف. عليَّ فقط أن أرمش بعيني كي ترتجف كورقة. أعرفك. أعرف جبنك. أعرف كرهك للدم. أعرف غرامك بتفاصيل حياتك الحقيرة. بحرُك ونوع نبيذك ودفاترك العتيقة الصفراء. أنت نكرة. لا شيء. مجرد واحد آخر تافه مطلق العجز. ضئيل كنملة. حين أدوسك، فبإرادتي، وحين أخطو من فوقك، فبإرادتي. أنا أرى الأشياء كلها، حتى التي مثلك. من أنت حتى تنظر فيّ؟ من أنت؟ من أنت حتى تكرهني أو تحبني أو تخاف مني أو تحتقرني؟ أنا الحرب يا فتى. أنا الساحق الماحق الذي لا قبله ولا بعده. أنا البداية والنهاية أنا. أنا الذي كان وما زال وسيظل، بغض نظري عن كلكم. بغض نظري عمّا أفكر فيكم، عن إحتقاري لكم وقرفي من جنسكم. أنا لست الموت. الموت بعض قليل مني. أنا أكثر اتساعاً من الموت. أنا أبعثر الحياة كما يبعثر طفل بيت نمل بعصا. ألعب بكم. أبعثر الوقت والمكان والعمر الذي كان والعمر الآتي. أشكّل الذكريات. أصنع الأرامل. أنحت الحزن في العيون. أنا من إذا أراد جعل أنفاسك تتراكم على قلبك، نفساً بعد نفس، كصخرة فوق صخرة.
.
في الخاتمة تعريف
.
أنا الجحيم الذي لا مفر مني. مَن تظنني حتى تأتي بي إلى نصك؟ طقس عاصف تنصح بالحذر منه؟ شخص كريه تلفت أصدقاءك إلى مساوئه؟ لماذا تخاطبني؟ كي تخسر بعض خوفك؟ ستظل خائفاً مني، أتيتُ أم لم آتِ. ستظل أبداً تخاف مني، فلا تمازحني. أنظر إليك. تهذي بي ليلك ونهارك. تتلعثم أفكارك بي. تجدني في وسادتك حين تنام. أنظر إليك وأنا أسكنك من ألفك إلى يائك. تعرف أنك لن تنتصر علي، فإياك أن تتذاكى مع هائل مثلي. اياك أن تلاعبني. إياك أن تؤنثني أو تذكرني أو تجعل مني شيطاناً أو مراهقاً. لا تقترب. أنا فوق مقدرتك على الفهم أو على الخيال. أنا رعبك وقد اكتمل، فلا تجلبني إلى نصك ولا تتجرأ على مخاطبتي. أنا هذيانك الذي يضج صوته في قلبك. أنا كاتب نصك هذا. وأنا الذي قرر منذ الكلمة الأولى ما سيكتب فيه. وقد ضجرت الآن. وأنت لا تستحق وقتي. هيّا. وقّع على ما أمليته عليك واذهب. النص انتهى.
مدوانات جهاد بزي - الشفير ملحفق الشباب

الاثنين، 2 يونيو 2008

ذاكرة الحرب اللبنانية


أيام يجب ان لا تنسى و الغاية لا ان نربي احقاد بل كي نتعالى عن الجراح و نتعلم من دروس الماضي